الجواب: قوله تعالى في سورة الأنفال(1): (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
صدق الله العلي العظيم
الشيخ خالد السويعدي البغدادي |
فلا شكّ ولا شبهة في أصل وجوب الخمس في الشريعة الإسلامية المقدّسة، وتتفق عليه المذاهب كافة، ومنكره يعدّ خارجاً عن الدين الحنيف. إلّا أنّ الخلاف الحاصل بين الفقه الجعفري والمذاهب الفقهية الأربعة الأخرى، أنّ الأول التزم بأنّ المراد من الغنيمة في الآية الكريمة مطلق الفوائد، والثاني اقتصر على خصوص غنائم الحرب بالإضافة إلى الكنز (الركاز).
روى ابن عباس فقال: "قضى رسول الله في الركاز الخمس"(2).
وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّه سمع رجلاً سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن الكنز فأجابه: وفي الركاز الخمس(3).
والدليل على شمول الخمس لمطلق الفوائد: أنّ كلمة (غنيمة) شاملة في اللغة لمطلق الفائدة لا خصوص غنائم الحرب، وإليك بعض التعاريف لها من معاجم اللغة:
1ــ معجم مقاييس اللغة: غَنَمَ... يدّل على إفادة شيء لم يملك من قبل(4).
2ــ المفردات: الغنم معروف... والغنم أصابته والظفر به ثمَّ استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...) ــ والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم، قال تعالى (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة) ــ (5).
3ــ النهاية: غنم ومنه الحديث: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)، إنما سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب. ومنه الحديث: (الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه). غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته(6).
4ــ مجمع البحرين: الغنيمة في الأصل أي في اللغة هي الفائدة المكتسبة(7).
5ــ المصباح المنير: الغنم بالغرم أي مقابل به فكما أنّ المالك كما يختص بالغنم ولا يشاركه فيه أحد فكذلك يتحمل الغرم ولا يشاركه فيه أحد(8).
6ــ أقرب الموارد: كلّ شيء مظفور به فإنّه يسمى غنماً بالضم ومغنماً وغنيمة(9).
7ــ تاج العروس: غنمه أي زيادته ونماؤه وفاضل قيمته(10).
8ــ محيط المحيط: وكلّ شيء مظفور به فإنه يسمى غنماً بالضم ومغنماً وغنيمة(11).
9ــ لسان العرب: الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه، غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته(12).
10ــ المنجد: الغنيمة: المكسب عموماً(13).
ويؤيد هذا، أي أنّ المراد من كلمة (غنيمة) مطلق الفوائد ما نراه من معاني هذه الكلمة في الكتاب والسنة.
أما الكتاب العزيز فقوله تعالى: (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)(14) أي منافع كثيرة.
أما السنّة: روى عبد الله بن عمر فقال: قلت لرسول الله وما غنيمة منفعة مجالس الذكر؟ قال: )غنيمة مجالس الذكر الجنّة الجنّة)(15).
وروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر((16).
وروى أبو هريرة عنه (صلى الله عليه وآله) قوله: (إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا أثوابها أن تقولوا اللّهم أجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرما)(17).
وروى عبد الله بن أبي أوف الأسلمي فقال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: (من كانت له حاجة إلى الله، أو إلى أحد من خلقه فليتوضأ وليصلي ركعتين ثم ليقل... وغنيمة من كل بر)(18).
وأيضاً يستفاد الشمول من كلمة "من شيء"، الواردة في الآية فإنّها مطلقة تشمل مطلق ما صدق عليه الشيء سواء كان من غنائم دار الحرب أو غيرها.
الرأي الفقهي يتسرب إلى المعاجم اللغوية
وقد يقول قائل: ورد أيضاً في كتب اللغة كـ"المصباح المنير" و"لسان العرب" و"تاج العروس": بأنّ المراد من الغنائم ما يغنمه المقاتلون في ميدان الحرب؟ قلنا: إنّ "المصباح المنير" ينقل تحديده بهذا المعنى عن أبي عبيد مباشرة، بينما يستند (اللسان) و (التاج) إلى الأزهري وقد استقى من (أبي عبيد)، وأبو عبيد كان فقيهاً وله مصنفات كثيرة من جملتها "غريب الحديث" وكتاب آخر في معاني القرآن، ونسب إليه ابن النديم في الفهرست كتباً أخرى في الفقه(19).
ومما يدلّ على تسرب المعنى الفقهي والتحديدات الفقهية إلى المعاجم اللغوية ما قاله القرطبي في تفسيره: "اعلم أنّ الاتفاق حاصل على أنّ المراد بقوله تعالى (غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه القهر والغلبة، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيّناه، ولكن عُرف الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع"(20). انتهى
فما ورد في هذه المعاجم من تحديد لمعنى كلمة غنيمة إنّما هو اجتهاد فقهي يكون حجّة على صاحبه ولا يلزم الغير مع أننا قد بيّنا سابقاً شمول هذه الكلمة ــ لغة وشرعاًــ لمطلق الفوائد، وخصوصاً إذا علمنا أنّ هذه المعاجم زمانها متأخر عن زمان نشأة المذاهب!.
وجه آخر للخلاف:
وأيضاً قد يقول قائل أنّ آية الخُمس قد وردت في غنائم دار الحرب وقد خصصها فقهاء المذاهب الأربعة بغنائم دار الحرب من جهة الإجماع، كما اعترف القرطبي، الذي هو أحد مفسري أهل السنّة حين صرّح بأنّ الآية تشمل ــ كما تقتضيه اللغة ــ مطلق الفوائد والأرباح وأنّها غير مختصة بغنائم دار الحرب وذكرها لغنائم دار الحرب يكون من جهة بيان أحد المصاديق وخصّصها فقهاء أهل السنّة بغنائم دار الحرب من جهة الإجماع(21).
نقول: إنّ المورد لا يخصّص الوارد كما هو معلوم، كما أنّه لا يمكن التمسك بالإجماع إذا كانت الآية صريحة في العموم، وايضاً مع وجود أدلّة من السنّة الشريفة تدلّ على شمول الخمس لمطلق الغنائم.
فها هو البخاري يروي في صحيحه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (وفي الركاز الخمس)(22).
وجاء في باب ما يُستخرج من البحر: قال ابن عباس (رضي الله عنهما) ليس العنبر بركاز هو شيء دسره البحر، وقال الحسن في العنبر واللؤلؤ الخمس فإنما جعل النبي (صلى الله عليه وآله) في الركاز الخمس ليس في الذي يُصاب في الماء(23).
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: سُئل رسول الله عن اللقطة فقال: (ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلاّ فلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس)(24).
كما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) في رسالته التي وجهها إلى أهالي حضرموت بواسطة مسروق بن وائل: بسم الله الرحمن الرحيم ــ من محمّد رسول الله إلى الأقيال من حضرموت... بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة على التيعة(25) لصاحبها التيمة(26) وفي السيوب الخمس(27). وتعني كلمة سيوب العطاء كما في قاموس المحيط قال الشاعر:
وما أنا من سيب الإله بآيس (أي عطائه).
ومما كتبه (صلى الله عليه وآله) إلى قبيلة من قبائل العرب: ــ مع عمرو بن مرة لجهينة بن زيدــ: (إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها على أن تؤدوا الخمس) (28).
وسياق الكلام ظاهر ظهوراً تامّاً في أنَّ المراد ليس خمس غنائم الحرب؛ إذ لا مناسبة بين ذلك وبين جعل بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها لهم، ثمَّ بين رعي نباتها، وشرب مائها، وبين الخمس؛ إلّا أن يكون خمس ما يحصلون عليه من ذلك الذي جعله لهم.
وكتب (صلى الله عليه وآله) إلى بني ابن عامر: (من أسلم منهم وأقام الصلاة وأتى الزكاة وخمس المغنم وسهم النبيّ والصفي فهو آمن بأمان الله)(29).
ومثله كتب (صلى الله عليه وآله) لبني زهير بن أقيش(30).
فالذي يفهم من هذه الأحاديث بأنّ مفهوم الغنيمة التي أوجب الله فيها الخمس لا تختص بدار الحرب لأنّ الركاز الذي هو كنز يستخرج من باطن الأرض وهو ملك لمن استخرجه، ولكن يجب عليه دفع الخمس منه لأنّه غنيمة، كما أنّ الذي يستخرج العنبر واللؤلؤ من البحر يجب عليه إخراج خمسه لأنّه غنيمة وهكذا بقية الغنائم.. وعليه فلا تتم دعوى الإجماع المتقدّمة مع المعارضة بهذه الروايات!!.
أمّا دليل دفع الخمس ــ بعد إخراجه ــ للفقيه الجامع للشرائط في هذه الأزمنة، وذلك لما ورد عند الخاصة والعامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بأنّه قال: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهذا يعني أهليتهم لقيادة المجتمع وإدارة شؤونه عموماً... أمّا خصوصاً فقد ورد عن أئمة الهدى، أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عن الفقيه الجامع للشرائط في مقبولة ابن حنظلة: فإني جعلته عليكم حاكماً. وقوله (عليه السلام) في مشهورة أبي خديجة: فإني قد جعلته عليكم قاضياً.. الظاهر منه أنّ للفقيه جميع ما للحكّام ــ ولاة الأمر الشرعيين ــ من المناصب والتصرف في مال الغائب بصرفه في المصارف المستحقة(31).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآية: 42.
(2) مسند أحمد بن حنبل 1: 314، وانظر أيضاً: صحيح البخاري2: 137، باب في الركاز الخمس.
(3) مسند أحمد2: 186.
(4) معجم مقاييس اللغةــ لابن فارس ـ 4: 319.
(5) مفردات غريب القرآن ــ للراغب الاصفهاني ــ: 366.
(6) النهاية في غريب الحديث ــ لابن الأثيرــ3: 390.
(7) مجمع البحرين ــ للطريحي ــ3: 333.
(8) المصباح المنيرــ للفيومي ــ: 454.
(9) أقرب المواردــ للشرتوني اللبناني ــ 4: 74.
(10) تاج العروس ــ للزبيدي ــ 17: 527.
(11) محيط المحيط ــ للبستاني ــ2: 1555.
(12) لسان العرب ــ لابن منظورــ12: 4458.
(13) المنجد: 561.
(14) النساء:94.
(15) مسند أحمد بن حنبل 2: 177ــ190.
(16) المصدر نفسه. 2: 330ــ 374.
(17) سنن ابن ماجة1: 573.
(18) المصدر نفسه1: 441.
(19) ككتاب الأموال وكتاب الأيمان والنذور وكتاب الحيض وكتاب الحجر والتفليس وكتاب الطهارة. وغير ذلك من الكتب الفقهية. انظر (الفهرست) ص107.
(20) الجامع لأحكام القرآن 8: 1.
(21) انظر الصفحة الرابعة من ج8 من (الجامع لأحكام القرآن). المسألة الثالثة.
(22) صحيح البخاري باب في الركاز الخمس.
(23) صحيح البخاري ــ باب ما يستخرج من البحر.
(24) سنن النسائي5: 45، سنن البيهقي 4: 155.
(25) التيعة أسم لأدنى ما يجب فيه الزكاة من الحيوان. وقيل الأربعون من الغنم. لسان العرب8: 38.
(26) الشاة الزائدة عن الأربعين أو التي تكون لصاحبها في منزله يحتلبها. لسان العرب 12: 75.
(27) أسد الغابة لابن الأثير3: 38.
(28) كنز العمال13: 502، السيرة النبويةــ لابن كثيرــ1: 316ـ مكاتيب الرسول3: 227.
(29) الإصابة3: 368.
(30) السنن الكبرى ــ للبيهقي ــ6: 303، المصنف ــ لابن أبي شيبة ــ 8: 463.
(31) وللتوسعة يراجع: موسوعة فقه الصادق (عليه السلام) للروحاني ــ 7: 513. وهنا ملاحظة نلفت نظر الإخوة المؤمنين إليها وهي أنّه: قد ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات مغرضة تحاول أن تذهل الناس عن دينهم كأن تأتي بروايات عن الأئمة (عليهم السلام) تقول أنهم أباحوا الخمس لشيعتهم وعليه فلا يجب دفع الخمس إلى الحاكم الشرعي ونحو ذلك من الأقاويل. وبلحاظ هذا نقول: الخمس فرع من فروع الدين خاضع للفتوى والإستنباط، والمكلّف لا يخلو إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً. وفي الحالين الأخيرين يكون خاضعاً لفتوى المجتهد على العموم ولا يحقّ للعامي الإفتاء من غير علم في مثل هذه المسائل، قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) الإسراء: 36. هذا وكنت قد كتبت ردّاً مستقلاً على هذه الدعاوى، أرجو أن أوفق لنشره في قابل الأيام.