طيب العراقي
بمناسبة عيد الغدير الأغر، أعاده الله علينا وعليكم بالحبور والسرور؛ أتاني سيل من رسائل التهاني والتبريكات، تقبلتها بشغف ومحبة، لكن من بينها كانت رسالة واحدة، أسرتني بمعانيها الزاخرة، ودعتني الى أن أتوقف عندها طويلا، الرسالة تقول: (اني بايعت علي..الإمام؛ علي ..المشروع؛ علي..المنهج في الدنيا والآخرة.. بيعة لا فيها نكول أو عدول أو تزييف).
شكًل يوم الغدير الحدث الأهم في حياة الأمة الإسلامية، وكان بحق منعطفا تأريخياً؛ في خلود الإسلام وامتداده المستقبلي، لما عرف بعصر الإمامة؛ التي إمتدت قرابة مائتان وخمسون عاماً؛ قبل غيبة إمام العصر والزمان المهدي المنتظر "عج"، وهو اليوم الذي قرن فيه؛ إخبار الأمة بمبدأ الإمامة مع تبليغ الرسالة، وإلا فلا معنىً لتبليغها؛ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.المائدة ٦٧.
في هذا اليوم العظيم كانت الحجة بالغة؛ مع وجود مائة وعشرين ألفا من المسلمين، من مختلف الأمصار والحواضر الإسلامية، لكن القلة القليلة فقط، هم من أوفوا البيعة والولاء؛ لخط الخلافة الربانية، والتفت حول أميرها وإمامها؛ علي بن ابي طالب"ع"، لتشكل نواة التشيع الأولى..وهنا يقفز السؤال؛ لماذا كانوا قلة، مع أن رسول الله "ص" كان حاظرا بينهم؟! وما معنى أن نبايع علي"ع" اليوم، وهل فهمنا معنى البيعة، وحققنا الحد الأدنى من إشتراطاتها ومتطلباتها؟!
اسئلة تنفتح على مئات الأسئلة الأخرى، بعضها أسئلة صادمة، تكشف أن البيعة تحولت لدى كثير من منتحليها، الى طقس مراسيمي، ينتهي بإنقضاء يومه، وأننا ذهبنا الى يوم الزينة العظيم، بقصد الإحتفال والفرجة، أو إسقاطا لفرض، أو تلبية سطحية لنداء الضمير..!
دعونا نتجاوز إشكالية التشكيك بوصية الرسول الأكرم "ص"؛ ببيعة الإمام علي بن أبي طالب "ع" وعن أحقيته بالخلافة من عدمها، وغادرنا هذا الموضوع برمته، للبحث جليا عن أسس النظام السياسي وطريقة إدارة الدولة الإسلامية؛ التي أرادها الرسول "ص" ببيعة علي "ع".
هذه البيعة التي لو كان لها أن تتم؛ لكانت إيذانا بتأسيس أرقى نظم إدارة الدولة والمجتمع، ولتصبح ولاية الإمام علي "ع"، منارا لمن يليه من الخلفاء؛ لا سيما وأنه؛ خير من يديم هذا الدفق الجارف؛ من المبادئ والخصال الإسلامية الحميدة، وترسيخها في إدارة الدولة، علي بن أبي طالب"ع" كان مشروعا حضاريا كبيرا، وإلا لما ترك مراتع طفولته وصباه، ومدينة أخيه رسول الله "ص"، وقطع آلاف الأميال ليستقر في العراق، ويشرع ببناء دولته هنا في أرض الحضارة، فهل إستوحينا "مشروع علي" في بناء دولتنا، أم أنها لقلقة ألسن فحسب؟!
علي بن أبي طالب "ع" منهج؛ وهو عليه السلام، رجل دولة تجمعت فيه كل الصفات القيادية؛ من فكر وتصميم وحسن تدبير، وورع وزهد، وتقوى وعدل, وقوة وشجاعة وبأس، ودوننا عهده لمالك الأشتر حينما ولاه مصر، فهو واحد من أرقى وصايا الحكم، فهل تدبر قادة دولة ما بعد 2003، بعضا من "منهج علي" في إدارة الدولة؟!.وسيأتيك من يقول أن بيننا وبين "منهج علي" ألف وأربعمائة سنة، وسنرد عليه أن بيننا وبين القرآن أكثر من ذلك، فهل بليَ القرآن أم مزقناه؟! وعلي والقرآن لن يفترقا حتى يردا الحوض؟!
علي بن أبي طالب "منهج للسلوك وطريق للحياة"، ومن المعيب علينا أن يعرفه غيرنا أكثر مما نعرفه نحن، أدعياء الإنتساب اليه، الذين نجدد بيعة لقلقة الألسن كل عام، وها هي الأمم المتحدة أكبر تجمع دولي في العالم، تختاره في العام 2002، تقريراً باللغة الإنكليزية بمائة وستين صفحة، أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، حيث تم فيه اتخاذ الإمام عليّ (ع) من قِبَل المجتمع الدولي شخصيةً متميزة، ومثلاً أعلى في: إشاعة العدالة، والرأي الآخر، واحترام حقوق الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين، وتطوير المعرفة والعلوم، وتأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية، وعدم خنق الحريات العامة.!
عجيب أمرنا، نعرف قدْرَهُ عليه السلام، ونتباهى بإنتمائنا له، ونكرر أسمه الكريم في صلواتنا كل يوم خمس مرات، وعندما ننهض من أماكننا نلهج بإسمه، لكننا في كل لحظة نزداد إبتعادا عن منهجه، سلوكا وعملا وتصرفات وأخلاق..
علي "ع" ليس مصباحا نشغله متى ما نحتاجه، ثم نعود لإطفاءه عندما نغادر المكان، بل هو شمس الحقيقة الساطعة، التي تضيء الأكوان، وحتى إذا جن الليل، فهو يصيء الأقمار لتذكرنا بوجوده في الطرف الآخر من كوننا ـ حياتنا..
ــــــــــــــــــــــــــــ
شكرا 19/8/2019