محمد أعماري - كاتب صحفي
عندما بدأت أسمع عن الصحافة وأنا صغير كنت أتساءل: لماذا يسمونها "مهنة المتاعب"؟ وكنت أقول لنفسي: إذا كانت مهنة لا يفعل أصحابها شيئا غير نقل الأخبار إلينا تسمى مهنة المتاعب، فماذا يمكن أن نسمي مهنة أبي الذي كان يستيقظ كل يوم قبل الفجر ولا ينام إلا بعد العشاء؟ وكان أسهل عمل قام به في حياته مليئا بعشرات أضعاف المتاعب التي يمكن أن يسببها أصعب عمل يقوم به صحفي؟ السؤال نفسه تجدد في نفسي بعد تخرجي من الجامعة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، فبعد رحلة بحث مضنية عن وظيفة -حكومية أو غير حكومية- تضمن حدا أدنى من العيش الكريم، لم أفلح فاضطررت كما الكثيرين من الخريجين من أبناء البؤساء إلى البحث عن عمل مهما كان شاقا، فانتهى بي المطاف إلى وُرش البناء، التي قضيت فيها أربع سنوات.
كنت وأنا أحمل كيس إسمنت أو كيس رمل وأنفاسي تتسارع تحت ثقله وأصعد به إلى الدور الثالث أو الرابع وصدى صراخ "المعلم" (البناء المسؤول عن المشروع) أو مدير الورش يتردد في أذني، كنت وأنا في غمرة كل ذلك أسخر من عبارة "الصحافة مهنة المتاعب". وكنت أقول لنفسي يا ليت من يصفون الصحافة بمهنة المتاعب يجربون زفرة واحدة من زفراتنا في هذه الوُرش، أو يسمعون صرخة واحدة من هذه الصرخات والإهانات التي نمسي ونصبح عليها. وتشاء الأقدار -بعد السنوات الأربع التي قضيتها بين أكياس الإسمنت والرمل والآجر وخلطات الإسمنت المسلح وقضبان الحديد- أن تنعطف بي الحياة في اتجاه مهنة الصحافة فأكتشف أن فيها فعلا متاعب لا يستهان بها، وإن كان الكثير منها لا يقارن بمتاعب مهن أخرى.
وليست متاعب "مهنة المتاعب" فقط في ما يعانيه المراسلون الميدانيون من صعوبات ومخاطر قد تودي بحياتهم أحيانا، خصوصا من هم في ميادين الحروب وخطوط النار، لكن هناك متاعب أخرى كثيرة يعاني منها حتى أولئك الصحفيون الذين يقضون يومهم جالسين على المكاتب يحررون الأخبار والتقارير، فنحن أيضا -كما القضاء- لدينا صحافة جالسة وصحافة واقفة. من متاعبنا في هذه المهنة أنك أحيانا تسعى وتركض وراء المعلومة الصحيحة وتلهث وراء المسؤولين وأصحاب القرار، وتتصيد الفرص والأوقات والأماكن التي يمكن أن تكون مناسبة لهم، لكنك في الأخير قد تعود بخفي حنين، هذا إن لم تعد معهما ببعض الإهانات والصد والاحتقار. وحتى بعض من لا يملكون إلا قرار أنفسهم تحس أحيانا -عندما تسألهم شهادة أو رأيا في موضوع أو حادثة ما- وكأنك تتسول آراءهم ويشعرونك أنهم يتفضلون ويتصدقون عليك، وأن يدهم أعلى من يدك.
الصحافة أصبحت "مهنة من لا مهنة له"، وأنها مثل الكثير من المهن ابتلاها الله بأشخاص يلوثون سمعتها كل يوم، ويشوهون رسالتها النبيلة في كل حين
ومن متاعبنا أيضا أن أغلب الناس يتركون هموم أعمالهم في مكاتبهم، وبمجرد أن يغلق أحدهم ملفاته التي يعمل عليها في مكتبه، يغلق معها نسخ هذه الملفات في مخه ولا يعود لفتحها إلا عند بداية دوامه في اليوم التالي، أما نحن فتلازمنا الأخبار والتطورات ومآسيها في كل لحظة، ونجد أنفسنا مضطرين لمتابعتها حتى ونحن نيام. وكم هو قاس على نفس الصحفي أيضا أن يجلس في لحظة صفاء مع نفسه يتأمل مهنته وحالها، فيكتشف في الأخير أنه يأكل الخبز بمآسي الآخرين، ويقتات من فتات تصريحات سياسية لمسؤولين بعضهم فاسدون، ويعلم أنهم كاذبون لكنه مضطر بحكم مهنته أن ينقل كلامهم للناس.
فكم من سياسي أخرق يطلق تصريحا أجوف في الصباح ونقضي يومنا معشر الصحفيين نركض وراء ردود الفعل التي أثارها و"نحلل مغزاه" و"الرسائل" التي تضمنها، لأنه للأسف ذو مركز مؤثر حتى لو لم يكن تصريحه كذلك، ولكم أن تتصوروا كم صحفيا في العالم تستنفره تغريدة واحدة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ربما يكون كتبها وهو في فراشه فيخلد هو للنوم ويطرده عن جفوننا نحن. كم هو قاس أيضا على نفس الصحفي أن يكتشف -عندما يلتفت إلى نفسه- أنه يعيش كل يوم وسط الدماء والأشلاء، ويمضي يومه متقلبا بين أقسى وأعنف الأفعال في اللغة مثل: قتل وفجر وهدد وندد وشدد وخطف وحاصر وهلك ومات وانهار وغرق وانتحر و....، وقلما يلتقي في خضم عمله اليومي فعلا من أفعال السعادة والفرح.
أما ثالثة الأثافي فهي عندما تكتشف أن الصحافة أصبحت "مهنة من لا مهنة له"، وأنها مثل الكثير من المهن ابتلاها الله بأشخاص يلوثون سمعتها كل يوم، ويشوهون رسالتها النبيلة في كل حين. وقبل أسابيع انفجرت في وجوهنا قبيلة الصحفيين "فضيحة بجلاجل" خرجت من بين جدران إحدى أعرق المجلات في العالم، وهي مجلة دير شبيغل الألمانية، التي اكتشفت متأخرة أن أحد صحفييها "المرموقين" كان يختلق الأخبار والقصص التي تنشرها له، وبعضها فاز من خلاله بجوائز عالمية ومحلية.
"الصحفي" "البارز" "اللامع" "المرموق" "النحرير" خدع مجلته ونظام التحقق ومراقبة جودة المحتوى فيها في 14 مناسبة، اختلق في بعضها قصصا، وفي بعضها أضاف "بهاراته" وجرب فيها "مهاراته" في الكذب والاختلاق والتخيل. فهل هناك تعب وقهر وانكسار أكبر من أن يرى أي صحفي مجد ومجتهد ومخلص في مهنته "أفاكا" يتوج بجوائز ويوصف بأنه "مراسل السنة"؟ وللمفارقة فأحد زملاء صاحبنا حذر مسؤولي المجلة من أفعاله لكن دون جدوى.