لقد تولت قيادة المظاهرات في البداية فئة الشباب على وجه الخصوص، معبرة عن مشاعر الإحباط من ضعف الآفاق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمامها، وعن آمالها الكبيرة في تحقيق غدٍ أفضل، بعيداً عن الفساد والمصالح الحزبية وبعيداً عن التدخلات الأجنبية.
وخرج مئات الآلاف من العراقيين -على اختلاف مشاربهم- للتظاهر انطلاقاً من حبهم لوطنهم، مؤكدين على هويتهم الوطنية، وكل ما طالبوا به هو بلد يسخر كامل إمكانياته لمصلحة العراقيين كافةً.
لكنهم يدفعون ثمناً لا يمكن تصوره في سعيهم لإسماع صوتهم، فمنذ مطلع تشرين الأول الماضي سقط ما يزيد عن 400 قتيل وأكثر من 19000 جريح.
وإذ نستذكر الذين سقطوا ونعرب عن إجلالنا لهم، فإن مُثُلهم العليا ومطالبهم لاتزال اليوم مفعمةً بالحياة أكثر من أي وقت مضى.
وقد أخبرني أحد المتظاهرين قائلا بكل وضوح:
"إما أن نحيا بكرامة وحرية أو لا نحيا، وذلك هو جوهر التظاهرات".
لقد زرت الأسبوع الماضي مستشفى في بغداد، والتقيت هناك بفتى يبلغ السادسة عشر من عمره وقد أصيب إصابة بالغة بشظية، وقالت لي أمه: "إن الافتقار إلى أي أمل يدخل اليأس إلى نفوس شبابنا في مرحلة المراهقة، وذلك يجعلهم يفكرون ويتصرفون كما يفعل من يبلغ على الأقل ضعف سنهم".
إن عمر ابنها لا يتجاوز الستة عشر عاماً، بيد أن هذا زمن طويل جداً إذا كان المرء بانتظار أن يفي القادة السياسيون بوعودهم.
ليست لدى هؤلاء الشباب أية ذكريات عن مدى الرعب الذي عاشه الكثير من العراقيين في عهد صدام حسين، إلّا أنهم يدركون تمام الإدراك الحياة التي وُعدوا بها بعد عهده. إنهم، ومن خلال القدرة على التواصل، يعلمون تماماً أن تحقيق مستقبل أفضل أمر ممكن.
إني غالباً ما أقول بأن الحكم على الوضع الراهن لا يمكن أن يتم من غير وضعه في سياق ماضي العراق، بيد أن ما نشهده هو تراكم للإحباط بسبب عدم إحراز تقدم على مدى سنوات عديدة.
وبعد سنوات -بل وعقود- من الصراعات والنزاعات الطائفية، يترسخ شعور جديد بالوطنية، يجسده ذلك الفتى ذي الستة عشر عاما الذي التقيته في المستشفى، فضلاً عن عدد لا يحصى من اخوانه وأخواته الذين يتظاهرون في العراق فيما تصفه بعض الشخصيات العراقية المعروفة ب"معركة أمة".
ودعوني أشدد على أن أية أمة ناجحة هي بحاجة إلى أن تحتضن بدفء إمكانيات شبابها، وتزداد أهمية هذا الأمر في العراق الذي يشكل الشباب نسبة كبيرة من سكانه.
سيدتي الرئيسة،
لقد خرجت الأحداث عن السيطرة منذ الليلة الأولى للمظاهرات بلجوء السلطات على الفور إلى القوة المفرطة.
إن سقوط القتلى وإصابة الجرحى بأعداد كبيرة وممارسة العنف - بالإضافة إلى إخلاف الوعود لمدة طويلة- عوامل أدت جميعها إلى حدوث أزمة ثقة.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة لحُزَمِ إصلاح مختلفة تعالج قضايا مثل الإسكان والبطالة والدعم المالي والتعليم، إلا أن تلك الإصلاحات ينظر إليها غالباً على أنها غير واقعية أو "ضئيلة جداً وفي وقت متأخر جدا".
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التحقيق الذي أجرته الحكومة في أعمال العنف التي وقعت في مطلع شهر تشرين الأول يعتبر غير مكتمل؛ فمن الذي يقوم بتحطيم القنوات الإعلامية؟ ومن الذي يطلق النار على المتظاهرين السلميين؟ ومن الذي يختطف النشطاء المدنيين؟ ومن هم هؤلاء الرجال الملثمون؟ والقناصة المجهولون؟ والجهات المسلحة غير المعروفة؟
أعلم يقيناً بإن عدداً من مذكرات الإعتقال قد صدرت، ولكني أود أن أؤكد على أنه يجب أن يحاسب الجناة محاسبة كاملة.
والآن سيدتي الرئيسة، لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى من بين المتظاهرين السلميين؛ ولكن ذلك هو ما قمنا بتوثيقه بدقة منذ الأول من تشرين الأول.
لقد تمت مراجعة قواعد الاشتباك للتقليل إلى أدنى حدّ من استخدام القوة المميتة، وفي واقع الأمر شهدنا قدراً أكبر من ضبط النفس عند بداية الموجة الثانية من التظاهرات، لاسيما في بغداد.
ولكن الواقع المرير هو أن إطلاق النار بالذخيرة الحية لم يتوقف بعد، وأن الأسلحة غير المميتة، مثل قنابل الغاز المسيل للدموع، لا تزال تستخدم بطريقة غير سليمة مما يتسبب في إصابات مروعة أو الوفاة. كذلك، لا تزال هناك حالات اعتقال واحتجاز تتم بشكل غير قانوني مثلما تحدث أيضا حالات اختطاف وتهديد وترويع. وكمثال على ذلك، الأحداث التي جرت مؤخراً في الناصرية والنجف.
لذلك، أرغب أن أؤكد مجدداً على أهمية ضمان الحقوق الأساسية؛ وعلى رأسها الحق في الحياة، ليس ذلك فحسب بل الحق أيضا في التجمع السلمي وحرية التعبير. بالإضافة إلى ذلك، أرغب (مرة أخرى) في التأكيد على الأهمية القصوى لتحقيق المساءلة التامة والعدالة على جميع المستويات.
وثمة نقطة مهمة أخرى نشير إليها: وهي أن إغلاق وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي والإنترنيت يعزز تصورات الرأي العام بأن لدى السلطات شيْا ما تريد إخفاءه؛ لأن التصدي لخطاب الكراهية لا يعني الحدّ من حرية التعبير أو حظرها.
وثمة أمر آخر، سيدتي الرئيسة، يشكل مصدر قلق كبير، وهو الانتهاكات المنسوبة الى نفوذ القوى المحركة، في مُحاولة لاختطاف التظاهرات السلمية.
إن أعمال العنف ذات الدوافع السياسية أو التي تقف خلفها عصابات أو الناجمة عن ولاءات خارجية تهدد بوضع العراق على مسار خطير، وتزرع الفوضى والتخبط، بما في ذلك فقدان مزيد من الأرواح وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
وهذا بدوره يقوض بشكل جسيم المطالب المشروعة للشعب العراقي، ويضع التعقيدات أمام عمل القوات الأمنية، كما يوفر ذريعة واهية للتقاعس السياسي، أو الأسوأ من ذلك: إيجاد عذر لجميع أنواع المؤامرات لتبرير الحملات العنيفة لقمع التظاهرات السلمية.
ولكي نكون واضحين تماما: فإن الغالبية العظمى من المتظاهرين سلميون بشكل واضح؛ ففي كل يوم يسعى الرجال والنساء إلى حياة أفضل. ودعوني أؤكد هذه النقطة: إن المسؤولية الأساسية للدولة هي حماية شعبها.
وبمعنى آخر: فإن أي شكل وكلّ شكل من أشكال العنف غير مقبول على الإطلاق، ويجب ألا يصرف الأنظار عن المطالب المشروعة للإصلاح، لأن ذلك من شأنه أن يعرض الدولة لمزيد الخطر.